مذكرات أسير صيني في العراق

المسلمون في عيني أسير صيني
مما يدعو للأسف أننا لانملك المصادر التاريخية التى تساعدنا على استجلاء الحقيقة التاريخية فى الروايات التى تداولها التراث العربى عن الأسرى الصينيين الذين أسرهم المسلمون فى معركة تلاس سنة 751م، ولكن ما نعرفه على وجه اليقين أن أحد أولئك الأسرى الذين تم نقلهم إلى العراق بعد المعركة بقى هناك على مدى إحدى عشرة سنة، وكتب تقريرًا عن الحياة فى العراق، بعد أن تم إطلاق سراحه، وسُمح له بالعودة إلى بلاده سنة 762م. وما كتبه هذا الأسير الصينى يلقى أضواء كاشفة على الحياة فى المجتمع الإسلامى بالعراق فى القرن الثانى الهجرى (الثامن الميلادى)، كما يعبر عن رؤية أحد المنتمين لثقافة مغايرة تماماً للدين والعادات والتقاليد فى مجتمع مسلم. هذا الأسير الصينى كان اسمه «تو هوان»، وربما يكون مفيداً أن نقدم نص روايته كاملة:

«... العاصمة اسمها الكوفة، والملك العربى اسمه مومين وهو تحريف للقب أمير المؤمنين. ويتحلى جميع الرجال والنساء بحسن الطلعة وطول القامة، كما أن ملابسهم لامعة نظيفة، وسلوكهم مهذب. وعندما تخرج المرأة إلى العلن عليها أن تغطى وجهها مهما كانت مكانتها الاجتماعية سواء كانت تنتمى إلى الطبقة الراقية أو كانت من بنات الطبقات المتواضعة. وهم يقيمون الصلاة خمس مرات يومياً. ويأكلون اللحم، ويصومون، ويعتبرون ذبح الحيوانات أمراً صحيحاً. ويلبس الرجال حول أوساطهم أحزمة يعلقون بها خناجر من الفضة. ويحرمون شرب الخمر ويمنعون الموسيقى.
وعندما يتشاجر الناس فيما بينهم لايضربون بعضهم بعضاً. وهناك قاعة احتفالات (يقصد المسجد الجامع) تتسع لعشرات الآلاف من الناس. وكل سبعة أيام يخرج الملك للصلاة (صلاة الجمعة)، ويرتقى منبراً عالياً ليلقى على مسامع الجمع الحاشد خطبة يتناول فيها ما يتصل بالشريعة، فيقول «إن الحياة الإنسانية صعبة للغاية، وطريق الاستقامة ليس سهلاً، والزنا خطيئة، وليس هناك ذنب أكبر من السرقة، أو النهب، أو غش الناس، حتى وإن كان فى أتفه صورة، ولاذنب أفدح من أن يضمن المرء لنفسه الأمان بأن يجلب على غيره المخاطر، وليس بعد خداع الفقير وقهر المسكين ذنب. وكل الذين قتلوا فى المعارك ضد الإسلام سوف يدخلون الجنة. فاقتلوا عدوكم وسوف تنالون السعادة التى تفوق الوصف».

«لقد تغيرت الأرض عن بكرة أبيها، والناس يتبعون الدين الإسلامى مثلما يتبع نهر مجراه. ويجرى تطبيق القانون بالحسنى، أما دفن الموتى فيتم بأسلوب بسيط دونما إسراف وسواء كان الناس يعيشون داخل أسوار مدينة كبيرة، أو فى رحاب قرية، فإنهم لا يحتاجون إلى شيء مما تنتجه الأرض. إذ إن بلادهم محور العالم، حيث البضائع وافرة ورخيصة، وحيث أقمشة القصب المطرزة الفاخرة، واللآلئ والنقود تملأ الحوانيت، على حين تمتلئ الشوارع والأزقة بالجمال والخيول والحمير والبغال. وهم يقطعون الأقصاب لبناء الأكواخ التى تشبه الأكواخ الصينية. وعندما يحتفلون بأحد الأعياد يجلب الأعيان عددًا لايحصى من أوانى الزجاج والأوانى النحاسية.

ولا يختلف الأرز الأبيض والدقيق الأبيض هنا عنهما فى الصين. ومن بين الفواكه عندهم الخوخ والتمور التى هي من زرع النخيل الذى يحملها منذ ألف سنة. واللفت عندهم كبير الحجم، مستدير وطعمه شهى جدا، ولكن الخضراوات الأخرى لديهم تشبه الخضراوات فى البلاد الأخرى. وحبات العنب عندهم كبيرة فى حجم بيض الدجاج. وأكثر الزيوت قيمة بالنسبة لهم نوعان، أحدهما اسمه الياسمين، والثانى يسمى المرّ. وقد عمل الصناع الصينيون الأنوال الأولى لنسج خيوط الحرير، كما كانوا أول من عمل فى صياغة الذهب والفضة، وكانوا أوائل الرسامين».


مجتمع ناضج ومتحضر
هذا النص المدهش والنادر الذى كتبه الأسير الصينى «تو هوان» - فى منتصف القرن الثامن الميلادى - يكشف عن مجتمع مسلم ناضج فى العراق آنذاك، وهو ما يتوافق مع الصورة التى نعرفها من المصادر التاريخية الأخرى. والصورة التى رسمها قلم هذا الصينى النابه ترجع إلى السنوات الباكرة فى عمر الخلافة العباسية، وقبل بناء بغداد مباشرة.

ومن المعلوم أن بناء بغداد بدأ سنة 762م، أى فى السنة نفسها التى سُمح فيها للأسير الصينى بالعودة لبلاده. ومن المؤكد أنه لم يكن الأسير الوحيد الذى أسره المسلمون فى معركة تلاس، فهو يشير إلى صناع صينيين آخرين عملوا فى العراق، ولا نعرف هل عادوا كلهم، أم بقى بعضهم فى العراق، فلم يكتب أى منهم عن تجربته مثلما فعل «تو هوان»، كما أن إشارته إلى صلاة الجمعة تتسق مع ما نعرفه من المصادر العربية عن أن الخليفة المنصور العباسى كان مشهوراً بخطبه البليغة التى كان يلقيها فى صلاة الجمعة بالمساجد. ومن المثير أن نرى هذا الصينى يهتم بما كان يرد فى خطب الخليفة عن إدانة الغش والكذب والقهر والظلم من ناحية، والحث على الجهاد وثواب الجنة للشهداء من ناحية أخرى.

إن الصورة التى رسمتها رواية الأسير الصينى الموجزة تكشف عن صورة مجتمع مسلم تطهرى, حيث ترتدى النساء فيه الحجاب، وتُحرم الخمور، وتُمنع الموسيقى (فى العلن على الأقل) بشكل واضح. ومن ناحية أخرى، فالصورة صورة مجتمع رفاهية تنعم بازدهاره جميع الطبقات الاجتماعية سواء فى المدينة أو فى الريف. وكانت الكوفة، بطبيعة الحال، مدينة إسلامية جديدة، ومن ثم كان المتوقع أن يكون فيها التزام شديد بالنظام الأخلاقى الإسلامى.

ولكن أهم ما يلفت النظر فيما كتبه «تو هوان» ذلك التوازن الذى يخلو من العداء، كما لاتشوبه «الغرائبية»، التى تشوب مثل هذه الكتابات عادة. ومن ناحية أخرى فهو يشير إلى تأثير الصناع الصينيين على بعض الصناعات فى العراق.

* عن معركة تلاس التي أسر فيها صاحب المذكرات:
وتكمن أهمية معركة تلاس فى أنها كانت علامة النهاية لحركة الفتوح الإسلامية الكبرى فى الشرق، فلم يحدث بعدها أبدا أن توغلت جيوش المسلمين إلى شرق فرغانة أو شمال شرق بلاد الشاش. كما لم يحدث بعدها أبدا أن دخلت الجيوش الإسلامية على طريق الحرير الشهير عبر صحراء جوبى إلى سينكيانج داخل الأراضى الصينية، ومن ناحية أخرى كانت تلك المرة الأخيرة التى وصلت فيها الجيوش الصينية إلى هذه المسافة البعيدة شرقا. لقد كانت معركة تلاس فى الشرق شبيهة بمعركة تور- بواتييه (بلاط الشهداء) التى جرت على أرض فرنسا فى الغرب سنة 732م، والتى هزم فيها «شارل مارتل» جيوش المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقى. وعلى الرغم من أن معركة تلاس كانت انتصارًا للمسلمين، على حين كانت معركة تور- بواتييه هزيمة لهم، فإنهما تشابهتا فى أمرين أساسيين: أولهما، أن المصادر العربية لم تتحدث عن كل منهما إلا قليلاً، وثانيهما أن كلاً من المعركتين كانت علامة على نهاية الدور النشيط فى حركة الفتوح الإسلامية شرقاً وغرباً.

ولكن معركة تلاس ارتبطت بالتراث التاريخى العربى لأسباب مختلفة تمامًا، فقد حملت قصص ذلك التراث روايات عن أن المسلمين أسروا فى هذه المعركة عددا من الصناع الصينيين الذين جلبوا معهم تكنولوجيا صناعة الورق إلى العالم الإسلامى. ومن المؤكد أن الورق كان معروفاً فى الصين قبل هذا التاريخ، بيد أنه لم يظهر فى العالم العربى إلا فى الربع الأخير من القرن الهجرى الثانى (الثامن الميلادى) ففى سنة 178 هـ تم تأسيس أول مصنع للورق فى بغداد، ليحل تدريجيا محل جلود الرَّق والبردى وغيرها من مواد الكتابة المعروفة آنذاك، ولم يلبث أن صار مادة الكتابة الرئيسية وانتشر استخدامه بسبب رخص ثمنه وسهولة تصنيعه.

* منقول من مجلة العربي العدد 601 - 2008/12

إرسال تعليق

أحدث أقدم